من مذكرات المللك فريد شوقى

قليلون هم الذين يغيرون بفنهم وجه المجتمع وهؤلاء كالشموع تحترق لتضيء للآخرين الدرب ، ولتكن أدوارهم دافعاً قوياً لسن التشريعات والقوانين ، وصيحة عالية تطلب الرحمة للضعفاء والمساكين الذين قست عليهم الظروف .. هذا هو الفنان الذي يعيش من أجل الناس .. وهذا هو فريد شوقي واحد من هؤلاء الفنانين القلائل الذين يربطون فنهم بحياة الناس .
. فكل فيلم يشترك فيه وكل دور يؤديه عبارة عن درس أخلاقي يهدي المتفرجين إلى الطريق الصحيح ؛ طريق الحب والخير والتسامح .. ذلك الطريق المفروش دائماً بالأمل .


ولنتتبع حياة فريد شوقي في مذكراته الصادرة بعنوان " ملك الترسو " عن مكتبة روزا ليوسف وقامت بصياغتها الناقدة السينمائية إيريس نظمي ، لنرى كيف كانت أدواره عظة ودروساً عميقة مؤثرة في فن الحياة ، يزرع في نفوس الناس الأمل ويترك الذكريات الطيبة محفورة في الأذهان .. فكانت بعض أفلامه ترجمة فورية لبعض القرارات والتشريعات التي تصدر لحماية المجتمع .

ففي عام 1952 وبعد قيام ثورة يوليو مباشرة صدرت القوانين التي تحرم تجارة المخدرات فأسرع فريد شوقي في تقديم فيلم " حميدو " الذي يبين أخطار المتاجرة بهذه السموم . وعندما حاربت الدولة الراشي والمرتشي بالسجن الذي يصل إلى خمسة عشر عاماً قدم " رصيف نمرة 5 " ليترجم هذه التعليمات إلى صور متحركة على الشاشة ، ثم قدم فيلم " الفتوة " الذي يعد وثيقة فنية تكشف استغلال التجار للمواطنين . كما أن بعض أفلامه التي قدمها كانت دافعاً وراء قرارات لصالح الناس فكان تأثير فيلم " جعلوني مجرماً " كبيراً في صدور قانون جديد يغفر للمتهم السابقة الأولى ويتيح له فرصة أخرى جديدة تبعده عن طريق الشر .. وكذلك فيلم " كلمة شرف " هو الآخر تسبب في إصدار قانون جديد يبيح للسجين أن يخرج بعيداً عن أسوار السجن لمدة 48 ساعة لكي يلتقي بأهله ..

ويصدر فريد شوقي المذكرات بكلمة وقع عليها بخط يده ، فحواها أنه سوف يتحرى الصدق في قول الحقيقة كاملة حتى أخطائه ونزواته سوف يحكيها بلا خجل بحلوها ومرها لتكون عبرة ودرساً يستفيد منها كل من يقرؤها . ويختار فريد شوقي لحظة مريرة يبدأ منها مذكراته حيث يذكر لنا حادثة إعدام زوج عمته ومعه ستة من أعضاء جماعة " اليد السوداء " المناهضة للاحتلال الإنجليزي والذين تم الحكم عليهم إثر مقتل السردار الحاكم الإنجليزي فوجهت تهمة القتل إلى هؤلاء السبعة من خيرة شباب الجمعية وضغط الإنجليز بشدة على القضاء المصري لكي يصدر حكمه بالإعدام شنقاً لرئيس الجمعية زوج عمته محمود إسماعيل البالغ من العمر ثلاثين عاماً ومعه الستة الآخرين .. فيقول الفنان فريد شوقي : " تفتحت عيناي على الحياة في عام 1925 .. وأنا أسمع هذه القصة كل يوم تقريباً ، فعمتي الأرملة تقيم معنا في نفس البيت الذي مازلت أذكره جيداً .. في حي السيدة زينب ـ 6 شارع زينهم بالبغالة .. البيت محاط بسور مرتفع جداً ، بابه من الخشب السميك الحجم .. عندما يفتح الباب يسير الداخل في ممر وسط الحديقة الصغيرة قبل أن يصعد السلالم الرخامية الموصلة داخل البيت المكون من ثلاثة طوابق .. الطابق الأول أعيش فيه مع والدي ووالدتي وأخوتي .. والطابق الثاني كان يعيش فيه جدي وجدتي .. أما الطابق الثالث فخصصه والدي لعمتي الأرملة بكامله .

كان أبي محمد عبده شوقي يشغل وظيفة رئيس أملاك مصر ، وهو من أصل تركي ، فجدي تركي الأصل لكن أمه كانت مصرية والشيء نفسه يتكرر مع أمي فوالدها ( جدي ) تركي الأصل أما أمها فكانت مصرية كذلك . لكن الوظيفة الحكومية لم تكن كل شيء في حياة أبي .. فهواية قراءة الأدب وكتابة الشعر شغلته كثيراً ، وكان خطيباً بارعاً يؤثر في النفوس بسرعة بسلامة إلقائه وبنبرات صوته الواضحة القوية .. بل كان هو نفسه الذي يدرس فن الإلقاء في قاعة المحاضرات بكلية الآداب جامعة القاهرة ، فكيف لا يكون خطيباً لامعاً وهو يدرس فن الإلقاء .. فن الكلام لدرجة أن زعيم الأمة سعد زغلول باشا كان يطلق على أبي اسم ( بلبل الوفد ) بسبب تفوقه في الخطابة " .

ويؤكد فريد شوقي أن والده هو المسئول الأول عن اتجاهه إلى الفن والتمثيل بالذات ـ دون أن يقصد ـ وهو الذي غرس في قلبه حب الفن بحكم أنه أديب ومتحدث لبق ومحب لكل الفنون .. يقول شوقي " كان يدفعني بقوة لإكمال تعليمي .. وهو الوحيد من بين أفراد أسرتي الذي شجعني على التمثيل .. ابتداء من سن السابعة كنت أذهب إلى شارع الفن والأضواء ؛ شارع عماد الدين ، لأشاهد مع أبي مسرحيات فرقة يوسف وهبي وفرقة الريحاني وفرقة على الكسار وفرقة فاطمة رشدي .. " .

كان فريد شوقي يوزع مصروفه على أطفال الشارع ليجلسوا يتفرجون عليه وهو يمثل ويقلد الممثلين ، يقول " وبعد أن أنتهي من التمثيل أقول لهم : صفقوا يا أولاد . فيصفقون لي ، وأنا في غاية السعادة ، بل أميل أمامهم وأرد لهم التحية مثل النجوم الكبار .. صرخت أمي عندما دخلت فجأة ورأتني واقفاً أمام المرآة أحدث نفسي بصوت مسموع وأحرك يدي وجسمي وعضلات وجهي وأصدر إشارات غير مفهومة ، وقالت بحزن وألم : ( الولد اتجنن خلاص .. دا بيكلم نفسه في المرايا . وصل خلاص مرحلة الجنان ) وبدأت تغلق نافذة الغرفة بعد تأكدها من أن الجيران يشاهدوني .. وانتشرت في الحي إشاعة قوية بأن فريد بن محمد عبده شوقي ( اتجنن خلاص يا عيني ) " .

0 comments:

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...